الجمعة، 13 مايو 2011

عشت لأروي‮ ‬لكم طفولتي‮ ‬في‮ ‬مجزرة حماه



خالد الحموي
لا اعرف ماذا اصابني‮ ‬اليوم‮…‬؟
ما عدت‮ ‬أريد التواري‮ ‬وسوف اذهب الى مرسمي،‮ ‬والى كل التظاهرات،. ‬لم اعد استطيع ان اخفي‮ ‬هويتي‮ ‬أنا الفنان الذي‮ ‬تحول الى ثائر منذ وقفة‮ ‬السفارة الليبية.‮ ‬وتحولي‮ ‬هذا ليس له علاقة بذاكرتي‮ ‬البعيدة في‮ ‬حماه عن مقتل أبي‮ ‬ومقتل مدينة طفولتي‮ ‬واغتصاب نسائنا وسجننا وقصفنا وقهرنا وتهجير من بقي‮ ‬منا الى الريف ليتسنى لهم تغطية جرائمهم‮. ‬اقسم بالله انني‮ ‬لست حاقداً‮ ‬أو طالباً‮ ‬للثأر‮ ‬ولكني‮ ‬مع القصاص العادل. ‬حزني‮ ‬الآن له علاقة بمشاهداتي‮ ‬اليومية لما‮ ‬يحصل من حولي. ‮ ‬نتظاهر فيطلقون علينا الرصاص،‮ ‬نشيع فيمطرونا بالرصاص،‮ ‬نعود لنشيع‮ ‬يردون بنفس الطريقة‮. ‬وهكذا. ‬نجلس في‮ ‬بيوتنا، فيكسرون الابواب ليعتقلوننا ويخيفون امهاتنا‮..‬
إذا لم اقتل انا فسوف‮ ‬يقتل‮ ‬غيري؛ اقسم بالله اني‮ ‬احب الحياة ولكني‮ ‬احب العدالة اكثر. ارجوكم، اخبروني‮ ‬ماذا افعل. لا اعرف ماذا اصابني‮ ‬اليوم‮…‬؟ تذكرت اليوم، أكثر من أي‮ ‬يوم، تذكرت أبي‮.‬
أبي‮ ‬كان طبيب عيون في‮ ‬حماه. لم‮ ‬يكن من جماعة الاخوان المسلمين لكنه انحاز لاهل مدينته المستباحة‮.‬
صدقوني،‮ ‬ونصف اهل حماة‮ ‬يشهدون على ذلك، لقد قلعوا احدى عينيه وهو حي‮ ‬ثم قتلوه ومثلوا بجثته أشد تمثيل.
‮ ‬لما دفناه وكنت صغيراً ‮ ‬أذكر أنه كان بلا عيون.
في‮ ‬شباط‮ ‬1982‮ ‬كان عمري‮ ‬6سنوات وكنت في‮ ‬الصف الأول ابتدائي‮ ‬وقد انتهينا من الفصل الاول وكانت عطلة الربيع،‮ ‬ويا لها من عطلة‮..‬
ليلاً‮ ‬ونحن نيام نسمع اصوات مدوية تكسر صمت المكان وتحول الطمأنية الى هلع قاتل،‮ ‬فيما ارتباك كبير‮ ‬يبدو على عمتي‮ ‬التي‮ ‬ربتني‮ ‬وانا انام بقربها‮ ‬لأملأ فراغ‮ ‬الأمومة لأنها لم تتزوج ابداً،‮ ‬وكانت تعيش معنا في‮ ‬بيتنا الجميل المؤلف من طابقين كبيت عربي‮ ‬تقليدي‮. ‬باقي‮ ‬اسرتي‮ ‬وابي‮ ‬وامي‮ ‬ينامون في‮ ‬الطابق الثاني،‮ ‬بعد هذا بلحظات أسمع اصوات اخوتي‮ ‬وابي‮ ‬وامي‮ ‬تعلو وهم‮ ‬ينزلون الدرج ويدخلون‮ ‬غرفة عمتي،‮ ‬فيما‮ ‬يتصاعد اطلاق الرصاص أمي‮ ‬تقول لأبي‮ (‬الم اقل لك ان نبقى في‮ ‬المزرعة‮)‬،‮ ‬هذه الجملة لم تفارقني‮ ‬لسنين‮ ‬طويلة وانا افكر بها وتؤلمني‮ ‬فكرة ان أبي‮ ‬لم‮ ‬يبق في‮ ‬المزرعة،‮ ‬بقي‮ ‬الأمر حتى كبرت وسامحته وقلت إنه القدر‮.‬
صوت الرصاص بدأ‮ ‬يملأ الحياة،‮ ‬كنت أسمع أزيزه للمرة الأولى،‮ ‬الصوت‮ ‬يرتفع أكثر،‮ ‬ثم‮ ‬بدأ صوت الانفجارات ومرت الساعات وبعدها بدأنا نتعود على هذه الاصوات،‮ ‬يمر الوقت ويبدأ بعض الجيران بالتوافد إلى بيتنا‮. ‬فوضى عارمة في‮ ‬كل مكان،‮ ‬اطفال‮ ‬يبكون،‮ ‬ونساء تقرأ القران وقلق كبير،‮ ‬هذا الوضع استمر ثلاثة ايام،‮ ‬وبعدها سمعنا صوت انفجار كبير،‮ ‬قال أبي‮ ‬إن قذيفة أصابت الطابق العلوي،‮ ‬واهتز البيت كما ملأ الغبار رئتي‮ ‬كمثل ما ملأ المكان وتعالى صوت النساء‮ ‬يقرأن سورة‮ ‬ياسين،‮ ‬فيما ارتفعت وموجة بكاء حاد‮.‬
قال ابي،‮ ‬يجب أن نغادر المنزل باقصى سرعة،‮ ‬خرجنا وبدأ الناس بالتجمع والصراخ،‮. كان الذعر‮ ‬يسيطر على كل شي،‮ ‬دخلنا الى بيت احد الجيران‮ ‬ومن ثم الى قبو مظلم اعتقد رجال الحي‮ ‬انه اكثر امناً‮ ‬من‮ ‬غير أماكن،‮ ‬وكان العدد اكبر من المكان‮. ‬وبقينا ثلاثة ايام والرصاص لايتوقف أبداً‮ ‬بعدها تندفع قذيفة مدفعية تهز كل شي،‮ ‬وسورة‮ ‬ياسين ترتفع حتى السماء،‮ ‬وقذيفة ثانية وثالثة المكان في‮ ‬اهتزاز دائم،‮ ‬فيما لم‮ ‬يصب احد‮ ‬من الذين كانوا في‮ ‬القبو،‮ ‬ولكن كثيرين من أهل الحي‮ ‬ماتوا واصيب الكثيرون،‮ ‬والطبيب الذي‮ ‬يسكن الحي‮ ‬انقذ من استطاع انقاذه‮.‬
بقينا في‮ ‬القبو حتى هدوء القصف والرصاص،‮ ‬اخرجونا وقالوا‮ ‬يجب المغادرة‮ ‬باتجاه احياء اكثر أمناً،‮ ‬لم‮ ‬يعرفوا حتى هذه الساعة انهم كانوا‮ ‬مخطئين ولم‮ ‬يخطر ببالهم انها كانت حملة ابادة جماعية‮.‬
خرجنا مسرعين باتجاه سوق الحاضر لنعبر الى الأميرية وصلنا الى شوارع كان علينا ان نعبرها زحفاً‮ ‬لوجود قناصة في‮ ‬كل مكان،‮ ‬بعد وقت صعب‮ ‬وصلنا الى حي‮ ‬الاميرية عندما قطعنا الشارع الأخير زحفاً‮ ‬كان ابي‮ ‬يساعد عمتي‮ ‬المرأة الكبيرة وانا ملتصق بها تماماً،‮ ‬عبرت امي‮ ‬واخواتي‮ ‬مع الجميع وبقينا نحن الثلاثة،‮ ‬حينها طلب مني‮ ‬ابي‮ ‬ان الحق بالجميع،‮ ‬فرفضت لاني‮ ‬كنت‮ ‬اريد ان اظل‮ ‬مع عمتي‮ ‬التي‮ ‬ربتني،‮ ‬ولكنه اجبرني‮ ‬على اللحاق بأمي‮ ‬والآخرين وبقي‮ ‬هو مع عمتي‮ ‬وهذه كانت آخر مرة أرى فيها ابي‮ ‬حياً‮.‬
في‮ ‬حي‮ ‬الأميرية تابعنا البحث عن ملجأ‮ ‬يحمينا،‮ ‬وجدنا قبوا مكتظا بالناس،‮ ‬لم‮ ‬يستطيعوا ادخالنا لأن عددنا كان كبيراً‮ ‬جداً‮ (‬معظم سكان حي‮ ‬البارودية‮)‬،‮ ‬ولكنهم ادخلو ابي‮ ‬وعمتي،‮ ‬فهم اثنان فقط‮. ‬في‮ ‬ذلك الملجأ في‮ ‬الأميرية اعتقل ابي‮ ‬وبقيت عمتي‮ ‬التي‮ ‬رأت وأخبرتنا بما حدث‮.‬
تابعت مجموعتنا الطريق باتجاه شمال الأميرية ووجدنا هناك ملجأ كبير‮ ‬يتسع للجميع وبقينا داخله‮ ‬يومين قبل وصول الجيش العربي‮ ‬السوري.‮ ‬عندها‮ ‬تحول الملجأ الى معتقل،‮ ‬حيث اخرجو جميع الرجال والشباب من المكان،‮ ‬واعدموا بعضهم مباشرة عند الباب،‮ ‬واعتقلوا الشيوخ كبار السن. ‬بقي‮ ‬في‮ ‬المكان النساء والأطفال،‮ ‬البعض‮ ‬يبكي‮ ‬والأكثرية‮ ‬يرددون بعد مجبرين تحت التهديد‮ (‬”بالروح بالدم نفديك‮ ‬ياحافظ”،‮ “‬يا الله حلك حلك‮ ‬يقعد حافظ محلك”، للامعان في‮ ‬مهانتنا‮).‬
ثلاثة أيام سجنونا وقتلوا من شاؤوا،‮ ‬اقسم بالله من دون طعام،‮ ‬رائحة المكان أتذكرها جيداً،. ‬كانت لاتطاق ودائما ما كنا نسمع اصواتا صراخ‮ ‬خارج القبو،‮ ‬اغتصاب نساء وتعذيب لايمكن لي‮ ‬اليوم ان اصفه أو أتذكره إلا ويؤثر بي‮.‬
لقد كان مع بعض النساء سكاكر وشوكولا،‮ ‬وقبل ان‮ ‬يأخذوا الرجال احضر احدهم خبزا وزيتون تقاسمنا كل شي‮ ‬كميات لاتكفي‮ ‬لرجل واحد؛ في‮ ‬هذا الوقت كانت النساء تقرأ القرأن من دون توقف ولكن بصوت منخفض. وبعدها فتح الباب وطلبوا منا الخروج لأنهم قالوا سوف نقتلكم وبدأنا نهتف‮ ‬بروح بالدم نفديك‮….‬الخ،‮ ‬عندها قالوا‮ ‬يجب أن نذهب باتجاه طريق حلب والاتجاه خارج المدينة،. ‬سرنا نرفع ايدينا ونحن نردد ما طلب منا،‮ ‬منظر لا‮ ‬يعقل. المكان مليء الجثث،‮ ‬وهي‮ ‬منتفخة،‮ ‬والدماء سوداء،‮ ‬ونحن من شارع الى آخر،‮ ‬الجثث والدمار في‮ ‬كل مكان‮.‬
‮ ‬تقدمنا حتى وصلنا الى جامع عمر ابن الخطاب‮ (‬الذي‮ ‬تسمعون عنه اليوم والذي‮ ‬بدأت فيه الآن التظاهرة للمطالبة بالحرية). كان الجامع مدمراً،‮ ‬لم‮ ‬يبق فيه الا الموضأ،‮ ‬كان فيه بعض عناصر الجيش اخافونا بتوجيه اسلحتم علينا،‮ ‬فانبطح الجميع أرضاً،‮ ‬وبعدها ادخلونا الى الموضأ واغلقوا الباب بإحكام،‮ ‬بعض النساء قلن لعناصر الجيش اقتلونا ودعوا الجميع‮ ‬يخرجون من المدينة ولكنهم رفضوا‮.‬
عند دخولنا الى الموضأ وجدنا خبزاً‮ ‬عفناً‮ ‬هجمنا عليه وبدأنا بالأكل‮.. ‬وهناك وجدنا ايضاً‮ ‬تمثالين صغيرين من حمام الزينة الأبيض،‮ ‬لا اعرف لماذا كانا هناك،‮ ‬ولكنهما بديا لي‮ ‬على انهما مؤشراً‮ ‬لبداية الخلاص من حمام الدم‮. ‬بقي‮ ‬الباب موصداً‮ ‬لمدة‮ ‬يوم ونصف بعدها القيت خطبة‮ ‬من احد الضباط قال فيها “التي‮ ‬لها زوج أو أخ او ابن أو أب وتنتظره،‮ ‬فلا تنتظره لأنه لن‮ ‬يخرج حياً‮ ‬ابداً‮ ‬و لن‮ ‬يعود”‮.‬
اطلقونا باتجاه حلب،‮ ‬مشينا اكثر من عشرة كيلومترات نسابق الزمن ونحن حفاة نبكي‮ ‬والنساء تقرأ القرآن،‮ ‬واذا سمعنا اطلاق رصاص مباشرة كنا ننبطح جميعاً‮ ‬حتى وصلنا الى النقطة التي‮ ‬سمحوا فيها لأهالي‮ ‬القرى الوصول اليها لمساعدة الناجين‮.‬
ماذا أقول‮… ‬اقسم بالله،‮ ‬هذا‮ ‬غيض من فيض‮.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ضَعْ بَصمَتك..~